إنها الرياضة التي وضعت بقصد الترويح عن النفس، وبقصد
المحافظة على رشاقة الجسم ولياقته البدنية،أو بالأحرى لتكون ملهاة تُخرج الإنسان من
طور التأزم الناتج عن مقارعة الحياة بكل ما تحمله من أصناف المعاناة إلى الإستمتاع
بمشاهدة المهارات التي تنخرط فيها المواهب البشرية لتقوم باستعراض ما لديها من فنون
وبراعات، علها تثير إعجاب الجمهور الذي يفترض أن يكون ناضجاً ويقدر الفن والمهارة
ويحترم الأداء الجميل المثير أي كان الفريق أو الفرد الذي يُظهر البراعة والتميز في
هذا الأداء.
لا نستطيع أن ننادي بإلغاء الكرة التي هي من منتجات الرياضة، لأنها
رافقت الإنسان على مر العصور ولأنها غريزية وفطرية حتى لدى الحيوانات والطيور في
البر والبحر وفي عنان السماء نراها رأي العين وهي تُسَخِّر بعض الأوقات لكي تلعب
وتستنمتع، سواء كان ذلك على شكل سباق أو مصارعة أو طيران بهلواني.
لا أدري لماذا
نصر كعرب على أن نسيء لأنفسنا ولكل ما هو حولنا، فصرنا نبريء الرذالة ونرذل
البراءة، حتى أننا نصر على أن نرسم لأنفسنا صورة قبيحة لا يجارينا فيها أي شعبٍ من
الشعوب، فترانا طلائع التخلف وأذيال التقدم بلا منازع لدرجة أننا أصبحنا أمةً تجرنا
الأمم الأخرى جرا وراءها رغماً عن أنوفنا كأمة معوقة وعديمة الإدراك.
لقد سعدنا
كثيراً عندما سمعنا أن فريقين عربيين قد تمكنا من الوصول إلى التصفية النهائية بعد
أن تجاوزا كل الفرق التي تنافست على بلوغ مرحلة التأهل،ولكن سرورنا لم يكن نابعاً
من شماتتنا بهزيمة الآخرين،وإنما كان بسبب اعتقادنا أن الرياضة العربية قد بدأت
تتلمس طريقها نحو الإحتراف،ولعل احترافها يكون مؤشراً على ارتقاء الإنسان العربي في
التخطيط والتنظيم والعمل الدؤوب لتحقيق النجاح،لأنه لو بلغ حد التمكن من نفسه ومن
ترويضها على النظام والإنضباط في أي حقل، لأصبح قادراً على نقل عقليته الجديدة إلى
كل الحقول.
ومع أن الفرق العربية التي سبق أن تمكنت من بلوغ النهائيات لم توفق
في الصمود في ملاعب الكبار أكثر من لعبتين أو ثلاثة،وكثيراً ما عادت أدراجها قبل
ذلك،فإننا مع هذا نرى جماهيراً عربية غفيرة تهوج وتموج كالبحر المتلاطم وكأن مصيرها
سيتقرر اليوم بين الأقدام المتراكلة،حتى ترجل الساسة وعلى مستوى الرئاسة، للدخول في
منافسةٍ مفتوحة على تمويل نفقات الحجيج الكروي المشجع لكلا الفريقين، مع علمهم
المسبق أن هذه الجماهير قد فقدت صوابها وقد تقوم لا قدر الله بمواجهات دامية تترك
آثاراً مريرة وحزازات بين الشعبين الشقيقين.
هل هو يا ترى عشق الكرة الذي بلغ
بالناس حد التشاتم والإشتباك وتنابز الألقاب بطريقةٍ تبعث على الإشمئزاز
والتقزز؟
كيف استمرأ الذين يشحعون فريق مصر العربية أن يعيَّروا أخوانهم في بلد
المليون شهيد بلحن لسانهم بعد أن خضعوا لرحلة من التغريب على يد المستعمر الفرنسي
الذي مارس بحق أخوانهم كل أشكال الجرائم من القتل والتدمير،ولم يحترموا حتى جهود
الذين قضوا من أهل مصر وهم يساعدون شعبها على المقاومة ويمدونه بالمال
والعتاد؟
كيف استمراَ الذين يشجعون فريق الجزائر أن ينعتوا أخوانهم المصريين
بالفراعنة ويعيرونهم بتسليم فلسطين وهم يعلمون أن خيرة أبناء الجيش المصري قد
استشهدوا حرقاً بالنابالم من طائرات العدو التي زودهم بها محتل الجزائر الفرنسي
صاحب الميراج والمستير وهو نفسه الذي احتل كلٍ من مصر والجزائر؟
لقد قامت هذه
المباراة بالكشف عن مدى هشاشة الشخصية العربية وضحالتها الحضارية وتمكنت من تعرية
الأمة شعوباً وقيادات وقدمت لنا تفسيراً منطقياً لمعنى وأسباب التخلف العربي رسمياً
وشعبياً وعلى كل المستويات سواء كان ذلك فكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو
اجتماعياً، وفوق هذا وذاك فقد كشفت عن مستوى الخواء الروحي والإنحطاط العقائدي الذي
وصلت إليه بكل أطيافها ومكونات نسيجها الذي بدا رثاً متهالكاً لا يصلح لمواجهة
العصر.
كنا تمنينا على القيادة المصرية أن تقوم بُربع أو خمس أو حتى عُشر هذا
المجهود من التمويل والتجهيز لقوافل المشجعين في (مباراة قطاع غزة مع الجيش
الإسرائيلي)عندما كانت مقذوفات هذه المباراة كرات من الجحيم الملتهب وكانت شباكها
الأجساد و البيوت ودور العبادة والمدارس لتحيلها إلى خبر بعد عين، بينما منعت
الجماهير من الخروج لتشجيع الفريق الغزي ولو (بالكلام) الذي قام بعض علماء المسلمين
بتحريمه على الجماهير وقامت الحكومة المصرية بتجريم من تسول له نفسه أن يمارسه،
بينما تخرس اليوم ألسنة العلماء وتنضب دور الإفتاء لإصدار أي من الفتاوى الشرعية أو
السياسية لوأد الفتنة الكروية وتندفع الحكومات شعوباً وقيادات صفاً واحداً لمواجهة
الشقيق العدو أو العدو الشقيق وكأنهم قرروا العودة إلى مسلسل (داحس والغبراء) التي
اشتعلت بسبب سباقٍ بين فرسين لفارسين كانا أبناء عم من بني عبس وذبيان.
ترى هل
سيقوم نصر الكرة بتعويضنا عن هزائمنا المتواصلة في الحرب والسياسة والإقتصاد
والعلم، أوعن هزيمتنا الكبرى في أخلاقنا وقيمنا التي لم يعد منها إلا بقايا ما تبقى
من بعض الآثار في كتب التاريخ الذي أصبحنا لا نجيد قراءته؟
أرجو أن لا تكون هذه
المباراة وثيقة رسمية تعلن عن وفاة أمة كانت... ولم تعد كائنة، بعد أن تدحرجت
وتحولت إلى كرة تتقاذفها أقدام الأمم الأخرى