عجبتُ للخبر الذي نُشر في الصحف عن تباري زوجتين لرجل سعودي على التبرُّع بكلية لزوجهما المريض, ولم يحسم التنافس بينهما إلا القرعة, (وقالت صحيفة "آراب نيوز" السعودية إن إدارة المستشفى الذي يُعالج فيه الزوج اضطرت إلى إجراء القرعة بين الزوجتين لتحسم هذا التنافس بينهما, وقد فازت الزوجة الثانية بالقرعة) [زواج من غير متاعب, عبد الحميد جاسم البلالي].
وسبب إعجابي بهاتين الزوجتين كونهما تشكِّلان الاستثناء من قطاع كبير من الزوجات المقترنات بزوج له أكثر من زوجة, وتكنَّان لزوجهما هذه المحبة الغامرة التي دعتهما للتبرُّع بإحدى كليتيهما له, بينما كثيرات من هذه الشريحة لا يصل إلى هذا المستوى من الحب والإيثار.
وسبب تعجُّبي أيضًا أن هاتين الزوجتين تجاوزتا مرحلة المجاملة والكلام المعسول إلى فداء الزوج لإنقاذ حياته والتبرُّع بجزء من الجسد ليكون سببًا في شفائه, وهي تضحية أقل أن توجد في مثل هذه الأيام خاصة بين الضرائر.
هذا الحب العملي من هاتين الزوجتين لزوجهما المريض لا يُمكن حدوثه من فراغ, بل من المؤكد أن هذين القلبين لم يلتفا حول هذا الزوج إلا بسبب ما يقوم به من إشاعة أجواء الألفة والحب في هاتين الأسرتين, وما يقوم به من الواجب والعدالة بين الزوجتين في المعاملة والمبيت والنفقة.
أخي الزوج....أختي الزوجة:
(قد تكون مشاعر الحب هامة وأساسية في العلاقة في العلاقة الزوجية, إلا أن أعمال الحب من التضحية والبذل لشريك الحياة من شأنها أن تحافظ على هذه العلاقة سعيدة ودافئة, ذلك أن هذه الأعمال تنم عن المحبة الكبيرة والتقدير العظيم لشريك الحياة, بل إن الحب الحقيقي أن يكون هناك من يعرفك جيدًا, فلا تحتاج معه أن تشرح ما تفعله, وهو من جانبه يهتم بك, ويرعاك ويوفر لك الحماية ويمتلك الاستعداد الصادق والدائم للعطاء, بدلًا من الأخذ) [حتى يبقى الحب, د/ محمد محمد بدري].
ولأن العلاقة الزوجية هي علاقة "حب" فهي استعداد دائم للتضحية والعطاء لشريك الحياة بل يصعب في العلاقة الزوجية التفرقة بين الأخذ والعطاء لأنهما يعطيان مدلولًا واحدًا في عالم الحب.
(في كل مرة نعطي شريك حياتنا نكون قد أخذنا, ليس بمعنى أننا أخذنا شيئًا ماديًا, وإنما أخذنا نفس ما أعطينا, لأن فرصتنا بما أعطيناه لمن نحب, ليست أقل من فرصته هو بما أخذ) [مستفاد من أفراح الروح, سيد قطب].
نعم عندما تمتلئ قلوبنا بالحب, وعندما نتقاسم هذا الحب, فإننا نصبح أكثر رأفة وملاطفة ومثابرة, وتنمو رؤيتنا ونكتسب مزيدًا من الرضا, وعندما نكتشف أساليب جديدة لنتقاسم هذا الحب يحدث تحوُّل سحري في حياتنا فنصبح أكثر اهتمامًا بشريك الحياة, وكلما اكتشفنا أساليب جديدة للتضحية من أجل شريك الحياة, نجد أنفسنا وقد أحاطتنا مشاعر الحب.
(والزواج حب وعطاء, وأولى الناس بالحب والعطاء من اخترتها شريكة لك, ومعينة لتسكن إليها وترتاح, ثم لتنجب منها ذرية صالحة, فاعلم أن التضحية منها إذا أردتها فستكون على مقدار العطاء منك) [وصايا إسلامية في الزواج, محمد كامل الشربيني].
وأنها من خلال هذا العطاء منك, يتكوَّن رضاها عن بيتها وعيشتها, وهذا الرضا يمثل طاقة الدفاع الكامل لحماية البيت, وأما حين تكون غير راضية فإنها تُخرب بيتها بيدها.
ولذلك نجد أن سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما زار ابنه إسماعيل وجده قد تزوَّج, فسأل زوجته عن الحال والمعيشة؟ فقالت: الحال في ضيق, فرأى إبراهيم أنها غير راضية, فقال لها: إذا جاء إسماعيل فاقرئيه مني السلام واطلبي منه أن يُغيِّر عتبه بابه, فلما جاء إسماعيل أخبرته بما بحدث؟ فقال لها: أنت العتبة, الحقي بأهلك, وطلقها [رواه البخاري].
(فنجد في هذا الحديث أن إبراهيم سمع قول الزوجة فأمر إسماعيل بأن يطلقها دون أن يتبين حالتها فعلًا, لأن المسألة لا تتعلق بحالة الزوجة العقلية بل تتعلق بإحساسها, بحالها, ومعيشتها, وقد كان هذا الإحساس وحده كافيًا لأن يحكم إبراهيم الخليل بطلاقهما, إذ أنه لا أمان للمرأة التي لا تشعر باستقرارها وسعادتها مع زوجها في بيته, كما أن إسماعيل لم يتردد في تنفيذ ما طلبه إبراهيم لأنه يعلم أن هذا هو الحق) [بيت الدعوة, رفاعي سرور].
المحبة الباذلة
إن الأساس الأول لدوام الحب بين الزوجين هو المحبة الباذلة التي لا تأخذ بقدر ما تُعطي.
وإذا كان الحب هو وجه العملة الأول؛ فإن وجهها الآخر الذي هو بالأهمية نفسها هو التضحية.
ولذلك فإننا حين نحب شريك الحياة فإن هذا لا يعني فقط أن تكون هناك مشاعر قوية فيَّاضة, وإنما أيضًا نمنحه قرارنا بشأنه, وحكمنا تجاهه وأخيرًا وعدنا له بعلاقة يصبح فيها كيانه أعز علينا من كياننا, وتمتزج فيها روحنا بروحه وتتحد ذاتنا بذاته, لنقتحم معًا جميع ما تفيض به الحياة من سعادة وهناء, وأيضًا من معاناة وألم.
ومن هنا فإن صفيف حقوقنا لا ينسينا هدير واجباتنا.
والحب العملي هو أن يحرص الشريك كل الحرص على أن يُسعد شريكه, ويكون على استعداد لأن يبذل له كل ما يستطيع.
الأخذ والعطاء
(يقول علماء النفس أن هناك شخصيتين داخل نفس الإنسان:
1- الآخذ: taker: وهو الذي يحب نفسه, ويطلب لها المدح والتقدير والثناء, وهو الذي يرفع شعارًا مستمرًا "افعل ما بوسعك لكي تكون سعيدًا بغض النظر عن سعادة الآخرين".
2- المعطي: giver: وهو الذي يحب الآخرين ويطلب لهم الراحة, وأحيانًا على حساب نفسه, هو الذي يرفع شعارًا مستمرًا "افعل ما بوسعك لكي تجعل الآخرين يشعرون بالسعادة, وتجنب أي شيء يجلب لهم التعاسة ولو على حساب سعادتك".
وسر النجاح في الحياة أن لا تجعل أيًا من الشخصين يتغلب عليك, أن تحب نفسك وتحب الآخرين في نفس الوقت [بالمعروف, د/ أكرم رضا].
كن كالمصباح ولا نكن كالشمعة:
لماذا المصباح؟ لأن المصباح يضيء لنفسه ويضيء للآخرين.
أما الشمعة فهي تضيء للناس وتحرق نفسها: (ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر بقوله: (مثل الذي يُعلم الناس الخير وينسى نفسه, مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) [صححه الألباني].
ويقول الرافعي: "إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك") [الإيمان أولًا فكيف نبدأ به, د/ مجدي الهلالي].
أخي الزوج..أختي الزوجة:
في حياتنا الزوجية تسيطر في الغالب خاصة في البداية شخصية المُعطي, فتعطي وتعطي حتى إذا لم تجد مقابلًا لهذا العطاء ولو كلمة تقدير؛ تنزوي هذه الشخصية خجلة وتتراجع لتتقدم شخصية الأخذ وتطالب بشراسة بهذا التقدير.
وهنا يقل رصيد الحب في بنك الحب, ما دامت لم تجد الإعجاب والتقدير.
إن التقدير الذي يحتاج إليه كل من الرجل والمرأة في كثير من الأحيان يأتي من رغبة الآخر داخلنا أن يتأكد أنه حصل على رصيد كبير في حياة الآخرين, ومن رغبة المعطي أيضًا أن يعرف أن الآخر على استعداد للعطاء عند الحاجة فينطلق وهو مطمئن آمن.
أصل العلاقة بين الزوجين
أصل العلاقة بين الزوجين هي الإسلام وتحيطها حقوق الأخوة الإسلامية, فقد أضفيت إلى رابطة الإسلام رابطة الزواج المقدسة والذي يقول عنها الله عز وجل: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].
وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]
وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] [أوراق الورد وأشواكه, د/ أكرم رضا].
مبدأ المنفعة للجميع
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [متفق عليه].
عبارة نبوية لحكمة موجزة, تحتوي على الكثير من المعاني, وتنضوي على عظيم الفوائد الكفيلة بتخيير البشرية كلها إن أحسنت تطبيقها.
لن يكمل إيمانك حتى تحب لغيرك ما تحبه لنفسك, إن البعد عن الأنانية والتمحور حول الذات, النظر إلى الحياة من منظور ضيق, كما يجري على ألسنة بعض الناس (مصلحتي فقط, أنا ومن ورائي الطوفان, أما المؤمن فتتسع نظرته لتشمل العالم كله أجمع, ويصير همه تحقيق المصلحة لنفسه وللآخرين في آن واحد ويصبح تفكيره تفكير المنفعة للجميع, كيف أفيد نفسي وأفيد الآخرين؟
وبالتالي فعليه رعاية مصالحه الشخصية, ورعاية مصلحة الآخرين في الوقت ذاته, ولم يكتف الإسلام بذلك؟ بل جعل أعظم الثواب لن يقوم بخدمة الآخرين والسعي في مصالحهم, قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس, أحب الأعمال إلى الله, سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة, أو تقضي عنه دينًا, أو تطرد عنه جوعًا)[حسنه الألباني].
فتأمل كيف يجعل الإسلام الأحرص على نفع الناس الأقرب إلى الله والأحب إليه, بل انظر إلى عظم ثواب قضاء حوائج الآخرين, فساعة واحدة في قضاء حوائج الناس خير من اعتكاف شهر في المسجد) [سحر الاتصال, محمد أحمد العطار].
يُمكننا تطبيق مبدأ المنفعة للجميع في حياتنا الزوجية ومراعاة كل واحد منا مصلحة ومصلحة الشريك الآخر, حتى تكون المنفعة للذات وللغير.
ليكن أساس تعاملنا مع الآخر هو أن انتفع وأنفعه, أو كما يعبر عن الغربيون أفوز أنا وتفوز أنت.
وماذا بعد الكلام؟؟
1- تذكر قوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
2- طبِّق قاعدة المنفعة للجميع, أفوز أنا وتفوز أنت في حياتك.
3- الحياة أخذ وعطاء, نحقق التوازن بين الأخذ والعطاء لتمتلك قلب الشريك الآخر, قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]
4- لا تكن كالشمعة تحرق نفسها, وتضيء للآخرين, ولكن كن كالمصباح يضيء لنفسه وللآخرين.